المناهج في الميزان
ذهب بعض الناس من إخواننا المسلمين إلى القول بأنه يلزم كل منا أن يؤسس منهجا لفهم القرآن ، فراحوا يبحثون لتأسيس منهج ، فمنهم من قال باللاترادف في الكلمات ، فسجنوا الكلمات لكي لا تفسر بعضها ببعض ، فأفقدت اللغة حيويتها ، ومنهم من راح يلعب على الكلمات ليقوم باشتقاقها ، وعليك بالإطلاع على مواضيعي التي أتكلم فيها عن اللغة ، لتعلم أن هذا الإشتقاق ما من شأنه إلا أن يأخذ بصاحبه إلى طرق الضلال ، وهناك من راح يلعب على حساب الأحرف واتخاذ الحساب وسيلة لإستنباط الأحكام ، وهناك وهناك ... ، والحقيقة أنه لا يتطلب أي منهجية في فهم القرآن ، المطلوب فقط تعلم لغة قريش التي نزل بها القرآن ، فإذا تعلمتها أصبحت فردا كفرد من قريش الذي نزل عليهم القرآن ، فلم يطلب منهم أن يصنعوا مناهج لأن القرآن سينزل عليهم ، ولم يهيئوا أنفسهم لذلك إطلاقا ، إن قريش شعب مثل شعوب العالم كانوا يعيشون حياة بدائية يرعون الإبل والأغنام ويزرعون ويحصدون لا يعرفون مدرسة ولا يعرفون قراءة ولا كتابة ، فالشعب كله يعيش على المراعي والأغنام والزراعة لا دراسة ولا قراءة ولا كتابة ، تلك هي حياة غالبية الشعوب آنذاك ، فقريش لم تكن لها أي من المؤهلات إلا لغتها الشعبية التي تتكلم بها في ما بينها ، مثلها مثل أي شعب له لغته الشعبية التي يتعامل بها ، ولم تكن عند قريش لغة يتكلم بها في الشارع ولغة أخرى يتكلم بها في مكان آخر ، بل كانت عندهم لغة واحدة هي التي يتكلمون بها ولا يعرفون سواها ، هذا كل ما تملكه قريش إن كانت اللغة ملكا ، شعب بسيط وبدائي إلى أقصى ما تتخيل ، فالقرآن نزل على هؤلاء القوم بلغتهم التي يتكلمون بها ، فلا يوجد أي إشكال عند قريش لفهم القرآن لغويا ، فاللغة لغتهم ولا جدال في هذا ، فعلينا نحن إن أردنا أن نفهم القرآن لغويا أن نتعلم لغة قريش والتي يكمن أصلها في لغة القرآن ، واللغة التي تدرس حاليا هي اللغة العربية إلا أنها ليست الأصلية بأتم معنى الكلمة ، فهي إحدى مشتقات اللغة الأصلية وتعد مدخلا جيدا للقرآن ، إذ بتعلم جزء لا بأس به منها يساعد جدا في الدخول لتناول لغة الأصل ، هذا كل ما يمكن للمرء أن يفعله ليعلم الهداية التي أنزلها الله ، ولا يطلب منه الكثير وهذا ليس بعسير .
إن من إخواننا المسلمين من راح يضفي قداسة لللغة العربية وحتى جعل حروفها مقدسة ، ومن ثم راح يوهم الناس بأنه يجب تناولها بقدسية حتى وصل بالبعض القول بأن رسومها مقدسة نزلت من عند الله ، والذي يتنبه لهذا بإذن الله يعرف بأن الشيطان وراء كل هذا ، حيث يريد من ذلك استخراج قواعد من الحروف ومن الرسوم ، وتزكية هذه القواعد يأتي بتقديس الحروف والرسوم إذ لا دليل لهذه القواعد مما أنزل الله ، فالسبيل الوحيد لتزكية هذه القواعد أي تزكية مناهجها هو تقديس اللغة وحروفها ورسومها ، فاسأل أصحابها أن يأتوك بدليل واحد على ما يصنعون من قواعد ومناهج ، فلا تجد لهم أدنى دليلا .
ــ إن لغة قريش كما ذكرت سالفا لغة شعبية ، ترعرعت في الشارع ، وتبنى في الشارع ، وتصنع وتتطور في الشارع ، شأنها شأن كل اللغات آنذاك ، وكلها مصطلحات ، ولا تخضع لأي قاعدة ، فلا يعرف الناس فعل مضارع ، ولا مفعول به
ولا ترادف ، ولا أي شيء ، الناس تتكلم واللغة تصنع نفسها دون التفكير في صنعها إطلاقا ، ولا يوجد أي ضوابط للكلام
ولا أحد يشرف على ذلك ، فقد ينطق الفاعل منصوبا في بعض الأحيان ، والمفعول به مرفوع ، وغير ذلك مما يخالف القواعد اللغوية التي ظهرت في ما بعد والتي أصبحت عاملا مهما في ضبط اللغة ، وأعطي بعض الأمثلة من القرآن .
يقول الله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }البقرة62
ويقول الله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }المائدة69
الملاحظة : أن كلمة [ الصابئين ] في الآية الأولى جاءت بهذا النطق بينما جاءت في الآية الثانية بنطق آخر [ الصابؤون ] وأقول نطق ولا أقول مرفوع ولا منصوب ، لأن الحقيقة هي اختلاف في النطق ، وذلك هو الأصل ، لأن مرفوع أو منصوب هي لغة القواعد النحوية المرتبطة بلغة المدارس ولا علاقة لها بلغة الشوارع ، فكلنا يتكلم لغة في موطنه مع أفراد عائلته ومحيطه الذي يعيش فيه ، فلا أحد يأتينا ليصححنا ليقول لنا ونحن نتكلم هذه كلمة يجب أن تكون مرفوعة أو منصوبة أو غير ذلك من التصحيح النحوي مثلا ، فالناس تتكلم بطلاقة لا مرفوع ولا منصوب ولا أي شيء ، تكلم فقط والناس تفهم ، وأعطيك مثالا آخر من القرآن من نوع آخر وهو موجود عندنا في كلامنا أيضا .
يقول الله عز وجل {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ }التحريم4
فالآية تتكلم عن شخصين اثنين ومع ذلك فالنطق جاء بالعبارة التالية [ فقد صغت قلوبكما ] فبالنسبة للغة القواعد يعتبر هذا خطأ فادحا ويرسب عليه في الإمتحان ، بينما في لغة قريش آنذاك يعتبر هذا النطق هو السليم ، ولو استعملت النطق بما تمليه لغة القواعد كأن تقول [ فقد صغا قلباكما ] فاعلم أن هذا سيعتبر كلاما سقيما عند القوم وقد يعتبرونك صبيا تتعلم الكلام أو أجنبيا لا يعرف اللغة ، لذا فالله يتكلم بلغتهم وبالذي يرونه سليما تماما كما يتكلمون ، وابحث في كلامك الذي تتكلمه مع محيطك ستجد مثل هذه العبارات وتجدها بالكثير ، وأعطيك مثالا آخر من نوع آخر أيضا .
يقول عز وجل عن فرعون ( فأراد أن يستفزهم من الأرض ... ) من الذي أراد ؟ إن فرعون هو الذي أراد
وقال أيضا عن موسى ( فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما ... ) من الذي أراد ؟ إن موسى هو الذي أراد
ففرعون أراد ، وموسى أراد ، وهذا طبيعي ، لكل منهما إرادة ، لننظر إلى الآية التالية :
يقول الله عز وجل ، والكلام عن الجدار ( فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه ) من الذي يريد ؟ الجدار هو الذي يريد الآن ، فهل الجدار له إرادة ؟ وهل هذه لغة الله أم لغة البشر ، فهذه هي لغة البشر ، وهذه هي لغة قريش ، وهذا هو النطق السليم عندهم ، فلو استعملت عبارة أخرى لكان ذلك سقيما عندهم ، وهذا ما نجده في لغاتنا التي نتكلم بها يوميا ، فهناك عبارات ألفناها نتكلم بها ، ولو حللت كلامنا كله أي لغاتنا الشارعية وحتى المدرسية لوجدت الكثير منها لا يستقيم ، وهذا الكلام الغير المستقيم هو في حد ذاته مصطلح اصطلاحا مستقيما ، فلو جئت بالمستقيم لكان ذلك خارجا عن لغة القوم ويعتبر غير مستقيما ، وبالتالي يؤنب ويعاتب الشاذ في مثل هذه الحالات .
ــ الحقيقة والمجاز
تناولت هذه النقطة لأني نسيت ذكرها في مواضيعي السابقة ، ولأهميتها تناولتها في هذا الموضوع .
هناك من إخواننا المسلمين من ينفي المجاز ، بينما هو موجود في جميع اللغات ، وما منا إلا ويتكلم به يوميا في محيطه الذي يعيش به ، نأخذ اليد كمثال يقول الله عز وجل ( إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده ) هذه اليد حقيقة ، وكل إنسان له يدين اثنين .
نأخذ مثالا آخر ، يقول الله سبحانه في حق القرآن ( نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه ) إن التعبير عن الكتاب وكأن له يدين مأخوذ من حقيقة الإنسان ويديه ، فلم يعبر عن الكتاب بثلاثة أيدي أو خمسة أو عشرة مع عدم وجود نهاية للأعداد ، بل عبر بيدين اثنين ، وهذا مما يدل على العلاقة الموجودة بين الحقيقة وما أخذ من تعبير به للكتاب ، وهذه العلاقة تظهر بكل وضوح أن التعبير الذي أعطي للكتاب وكأن له يدين مأخوذ من حقيقة الإنسان وما يتصرف بيديه ، ويسمى هذا التعبير بالمجاز اصطلاحا ، ويوجد في جميع اللغات ، والمجاز مثله مثل التشبيه تماما ، فلو أخذنا قوله سبحانه وتعالى عن أهل الكتاب إذ يقول ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ) وهنا نلاحظ أن الآية تذكر نوعين من المخلوقات ، بشر وحيوان ، والتعبير اللغوي يجعلنا نتخيل صورة بشر في حيوان يحمل أسفارا ، وكيف يكون بشر حيوانا يحمل أسفارا ، وكيف نسمي هذا ؟ وهل هذا خطأ ؟ وإذا كان خطأ فمن الذي أخطأ ؟ هل ينسب الخطأ لله سبحانه أم ينسب لللغة ؟ لا يوجد خطأ في اللغات ، فبنياتها من أولها إلى آخرها كلها مصطلحات ، فمن ينفي المجاز عليه أن ينفي التشبيه ، وعليه أن لا يتكلم بهما في حياته ، وعندها سيعلم أن المجاز يعتبر قوة وثراء كبيرا في اللغات ، ولغة القرآن لغة قريش إحدى هذه اللغات .
ــ فهم القرآن باشتقاق الكلمات
نأخذ كلمة من القرآن لإشتقاقها ، ونأخذ مثلا كلمة [ قنطار ] من قوله سبحانه ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) فالذي يريد أن يبحث عن المشتق القريب ليجعل منه مفهوما لكمة [ قنطار]
فإنه ينطلق في البحث عن كلمات أخرى يوجد فيها أكبر عدد من الحروف الواردة في كلمة [ قنطار ] علما أن كلمة
[ قنطار ] موجودة في اللغة الفرنسية بنفس النطق والمدلول أيضا [ qiuntal ] فهل هذا الإشتقاق الذي تبحث عنه هو في اللغة الفرنسية أم في اللغة العربية ، وهل الكلمة مستوردة من اللغة الفرنسية ، أم الكلمة صدرت إليها ؟ تساؤلات كثيرة تدخلنا في عالم الغيب ، يتطلب الأمر أن يكون لديك علما يقينا بكل كلمة ومصدرها ، هل هي عربية أصلا أم مستوردة ، وهذا على جميع الكلمات ، يجب أن تحيط بالكلمة علما من كل جانب ، مصدرها من أين أتت ، ومنشئها كيف نشأت ، وتطورها عبر الزمان هل تغيرت أم لا وكيف تغيرت ، قد يصدق الإشتقاق على بعض الكلمات محصورة جدا ، ولا يمكن أن يكون قاعدة لفهم القرآن وإلا ضل من انتهج هذا المنهاج .
إن لغة قريش مثلها مثل جميع اللغات قديما وحديثا والتي تنمو وتترعرع في الشارع لا تخضع لأي قاعدة ، والله أنزل الرسالات كلها بهذه اللغات ، وليس بلغة المدارس ، فالنطق والسمع هما الوحيدان اللذان كان يتعامل معهما التنزيل ، وهما كافيان وكفيلان بأن تفهم الشعوب بهما الهداية التي أنزلها الله ، وتعرف ما عليها ، وتهتدي بها ، وتلقى الخير منها ، فلا تعقيد على الناس من الإقتراب من ربها والدخول في رحمته ، وتلقي هدايته ، فعلى الناس أن تتعلم لغة قريش وتدخل الهداية من بابها الواسع جدا ، فلا منهاج ، ولا قواعد ، ولا رسوم ، ولا غير ذلك من الشروط التي وضعها المعوقون لتثبيط وعرقلة الناس عن معرفة ربها .
ــ وزن المناهج
لمعرفة حقيقة هذه المناهج يجب وزنها ، ولا بد أن تظهر نتائجها ، وما من شك أن لكل منهجية نتيجتها ، وعلينا أن نزن هذه النتائج للفصل فيها ، وكيف نزن هذه النتائج ؟ علينا أن نعرف بأن النتائج تقوى وتضعف بقدر ما تأتي من الهداية أو الضلال أثناء ممارستها لكتاب الله ، وهذا هو المقياس الذي نزن به هذه المناهج وغيرها من المصنعات والمبتكرات وأي شيء ممكن أن يظهر ، على المنهج أن يستخرج لنا الهداية التي أنزلها الله ، فعليه أن يستخرج لنا الصلاة والزكاة والصيام والحج والحدود التي أنزلها الله ، ويحكم على المنهاج بالهداية أو الضلال عندما نقحمه في التنزيل ليستخرج لنا الهداية ، فآلة الصياد نرميها في البحر لنرى هل تأتينا بالأسماك أم تخرق الباخرة التي نحن عليها ، بقي لنا كيف نعرف الهداية من الضلال ، فأي منهاج نبعثه للتنزيل ليأتينا بالصلاة مثلا ، فعليه أن يأتينا بالصلاة حية تمشي ، وكيف تأتي حية تمشي ، تأتي حية تمشي عندما تأتي والأدلة معها تنطق بها ، تأتينا تقول كم عدد الصلوات التي فرضها الله علينا في اليوم ، وما هي أوقاتها ، وكيف نؤديها ، وكل ما هو مربوط بالصلاة ، تأتينا الصلاة تنطق لوحدها والأدلة على رأسها ، أما إذا بعثنا بالمنهاج ولم يأتينا بشيء أو أتانا بميتة يقول هذه الصلاة ، فهذا المنهاج ضال مضل ويجب زهقه وسحقه لئلا يضل الناس ، وبهذا نأتي على حقيقة المناهج ، وأضرب مثالا حيا عن ذلك ، فاطلعوا على موضوع [ الصلاة شعيرة أم مفهوم ] وفي هذا الموضوع ترون الصلاة والزكاة التي جاء بها أحد المناهج ناهيك عن الأمور الأخرى التي جاء بها المنهاج حيث ترك المساجد وجاءنا بالمخابر العلمية وقال هذه هي المساجد ، فمخبر نازا مسجدا ، ومخابر العالم كلها مساجد ، وجاءنا بالبرلمانات وقال هذه هي صلاة الجمعة ، فالبرلمانات الأوروبية والآسيوية هي صلاة الجمعة والبرلمانات الهندية التي يعمرها الهندوس وعباد البقر وعباد الجرذان فهذه البرلمانات هي صلاة الجمعة ، وجاءنا بالمجتمعات السلمية كمجتمع الصين ومجتمع الهند مثلا وقال هؤلاء هم الذين آمنوا ، وخطاب الله بالذين آمنوا هم هؤلاء
وجاءنا بلحم الخنزير وقال هذا حلال والحرام هو ما تنتهي صلاحيته من اللحوم ، والكثير الكثير ، فلا يأخذ أحد بقولي هذا حتى يتحقق هو بنفسه بأن يطلع هو على المواضيع من المصدر ، وهي موجودة في منتدى الفكر الحر ، وموجودة عندي في منتداي ، لكن للثقة بالمصدر، أفضل أخذها من الأصل ، أي منتدى الفكر الحر .